الجمعة، 1 نوفمبر 2013

عن المدينة والذاكرة ومأزق التراث

في الصفحات الأولى من الجزء الأول من ثلاثية «القارة المائية» (2006) The Liquid Continent، والذي يصف فيه الكاتب نيكولاس وودزورث رحلته للإسكندرية كواحدة من ثلاثة مدن بحرمتوسطية كبرى، يستقل المؤلف القطار المتجه للمدينة، وتأتي جلسته إلى جوار طالب جامعي سكندري كان منشغلا بهاتفه المحمول. يتبادل الاثنان كلمات قليلة عن الإسكندرية. غير أن الشاب يخرج عن صمته فجأة عندما بدى على الكاتب الاهتمام الشديد بإحدى الفيلات القديمة المهمَلة تصادف أن يمر القطار إلى جوارها في نهاية رحلته:

"إنها لا شيء" قالها وهو يشيح بيده في رفض. "هناك مئات من هذه المباني في الإسكندرية. كان الأجانب الأغنياء يعيشون فيها. إيطاليون، يهود، يونانيون، شوام، فرنسيون.. لقد رحلوا جميعا. والآن تختفي هذه البيوت أيضا. سرعان ما سيهدم هذا البيت أيضا. ما أهميته؟ انه قديم."

تعليق الشاب، مثل الفيلا نفسها، أثار الدهشة والتساؤل لدى الكاتب، فكتب يقول أن مثل هذا البناء التاريخي لو وجد في روما أو نابولي لكان له شأن آخر، لكنه في الإسكندرية أصبح مثالا على الإهمال. تعليق الشاب قصير ومقتضب، لكنه بلا شك لسان حال الكثير من سكان الإسكندرية على اختلاف أعمارهم وتخصصاتهم. بسبب عملي في تدريس العمارة واهتمامي بتاريخ المدينة العمراني سمعت مثل هذه الآراء كثيرا، ليس فقط من الطلبة بل من زملاء ومن مهندسين يمارسون المهنة منذ فترات طويلة، منهم من قام ببناء عمارات سكنية فوق حطام مثل هذه الفيلا منذ بداية السبعينيات. واليوم، وبعد عقود من هذا "الإحلال العمراني" سيطرت الأبراج الخرسانية تماما على خط سماء المدينة. أحياء كاملة اختفت ملامحها العمرانية بشكل كامل عبر العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة. تغير عمراني سريع وكاسح لن يدرك فداحته إلا من يقوم بمقارنة الصور الفوتوغرافية القديمة لشوارع المدينة وميادينها بحالتها اليوم. تضاعفت قيمة هذه اللقطات كثيرا مع تغير المدينة. بعض الصور تفشل كل الجهود المبذولة الاستنتاج مكانها الحالي، رغم أنها تحمل تاريخ يعود الثلاثينيات مثلا. 

حي "سموحة سيتي" في الثلاثينيات. ماذا تبقى من هذه الضاحية الحدائقية الفريدة؟ لا شئ!
الصورة عن موقع
aaha.ch

لقد كان أمرا ملفتا أن يثير الكاتب أسامة أنور عكاشة هذه القضية في توقيت مبكر في «الراية البيضا» المسلسل التليقزيوني الذي تم انتاجه عام 1988. في المشهد الأخير من هذا المسلسل يجلس أبطاله أمام البلدوزر الذي يتحرك بثقة ليهدم فيلا من روائع تراث المدينة المعماري بعد أن فشلت كل جهودهم الأخرى في الحفاظ عليها، وتقف الكاميرا في اللحظة التي تتشابك فيها الأيدي أمام الجرافة المتقدمة. لكن يبدو أن الرسالة -رغم صياغتها المبهرة ونهايتها البديعة- لم تصل إلى أهل الإسكندرية، واستمرت المدينة في التغير والتدهور، بل إن الفيلا التي شهدت أحداث المسلسل وكانت رمزا دراميا لتراث المدينة الفريد تم هدمها هي نفسها لاحقا. وهي، بالمناسبة، لم تكن -رغم طرازها الأوروبي الانتقائي- بيتا لأحد الأجانب أو "الخواجات" الذين شكلوا الموزاييك العرقي والثقافي الفريد لسكان الإسكندرية قبل 1952، وإنما كانت سكنا لعائلة عثمان باشا محرم شيخ المهندسين المصريين ونقيبهم ووزير الأشغال العامة في 14 وزارة مختلفة في ظل حكم فؤاد وفاروق.

فيلتا عثمان محرم باشا، مسرح أحداث مسلسل الراية البيضا، قبل هدمهما. الصورة تعود إلى السبعينيات 
الصورة من الموقع الشخصي للسيد بروس برامسون 

إن الإنسان بطبيعته يرتبط بالأمكنة التي نشأ فيها أو تلك التي ارتبط بها تاريخ أسرته أو احدى الجماعات التي ينتمي إليها اجتماعيا أو ثقافيا أو دينيا. والمجتمعات المختلفة دائما ما تتخيل أن هُويتها مرتبطة بأماكن بعينها تصبح "أمكنة للذاكرة" وتحمل بالتالي قيما ومعانٍ أعمق وأهم من غيرها. ولايخلو سياق خاص بالهوية الوطنية من حديث عن أماكن تحمل رمزية ينبغي على الجميع أن يحافظ عليها. فالسؤال هنا إذن لماذا ترك سكان الاسكندرية مدينتهم تتحول بهذا الشكل؟ ولماذا أصبحت المباني التاريخية إرثا يخص غيرهم من جنسيات أصبحت في نظرهم غريبة على المدينة؟ ومتى أصبح "القديم" غير ذي أهمية؟ لا شك أن مأزق التراث في الإسكندرية مرتبط بظروف المدينة الجغرافية والتخطيطية والاقتصادية، لكنني هنا سأقوم بالتركيز على التغيرات السياسية والديموغرافية الجسيمة التي طرأت على الإسكندرية (وعلى مصر بشكل عام) في أعقاب يوليو 1952 باعتبارها أحد الأسباب المباشرة وراء هذه التحولات. 


لقد كان العمران ولا يزال وسيلة هامة تم استخدامها في دعم الأنظمة السياسية بأساليب مختلفة عبر التاريخ. فمن يتحكم في شوارع المدينة وميادينها يستطيع أن يؤثر بالتالي بقوة في وجدان أهلها وذاكرتهم الجمعية بالشكل الذي يتوافق مع مصلحته. من يتحكم في عمران المدينة يتحكم بالتالي في قرار إقامة (أو إزالة) النصب التذكارية بما يتفق مع روايته المفضلة للتاريخ، ويملك آلية تغيير أسماء الشوارع والحارات والمحطات ومباني الخدمات العامة بأسماء الأشخاص والأحداث التي يريدها أن تبقى في الأذهان لكي يبني عليها شرعيته، ويملك القرار في اختيار ما هو جدير بالترميم والحفاظ من عمارة المدينة وما لا يستحق سوى الإهمال والتخريب، ويتحكم أيضا فيما يصح أولا يصح إقامته من طقوس أو احتفالات جمعية يمارسها سكان المدينة في حيزاتها العمرانية العامة. هذه السياسات التي تجمع ما بين التحكم فيما هو مادي ملموس وما هو معنوي غير ملموس تعمل في مجملها على تشكيل جوانب لا يمكن الاستهانة بها من المجال العام الذي يتفاعل من خلاله سكان المدينة، وبالتالي على تشكيل وجدانهم وهويتهم.


إذا تتبعنا التاريخ العمراني لمدينة الإسكندرية الحديثة منذ أن ازدهرت على يد الوالي محمد علي باشا وحتى اليوم، نستطيع أن نقسم هذا النوع من سياسات التعامل مع العمران الواعية لتفاعل "العمران-الذاكرة" إلى ثلاثة فترات تتزامن في الحقيقة مع التغيرات في الساحة السياسية المصرية. الحقبة الأولى هي حقبة الأسرة العلوية خاصة منذ عهد الخديو اسماعيل الذي كان أول من أقام تماثيل في الميادين العامة بالقاهرة والإسكندرية لترسخ تاريخ الأسرة الحاكمة في الحيزات العامة، فكان تمثال جده محمد علي باشا الذي أزيح عنه الستار بميدان المنشية عام 1873 هو الأول من نوعه الذي يقام في مدينة تنتمي إلى العالم الإسلامي.


باستطاعتنا -إن أردنا- أن نتابع ونحلل طبيعة الصراعات السياسية المعقدة بين سلطة القصر وسلطة الاستعمار ونفوذ الجاليات الأجنبية بالإسكندرية وأيضا التيارات والأحزاب السياسية الفاعلة في ذلك الوقت (الذي ترسخت فيه الأفكار النهضوية والقومية المصرية) من خلال رصد وتحليل التماثيل والأضرحة وأسماء الشوارع والميادين في الإسكندرية.

الوالي محمد علي ممتطيا جواده في قلب ميدان الإسكندرية الأكبر، ميدان المنشية. تمثال من البرونز للمثال الفرنسي جاكومار.
الصورة من موقع Ancient Egypt and Archaeology Web Site

 أما الحقبة الثانية، وهي الحقبة الناصرية، فقد أولت اهتماما بالغا بهذا النوع من إدارة العمران، فحرصت على استبدال كل ما يمكن أن يذكّر أو يرمز إلى فترة حكم الأسرة العلوية بالمدينة برموز "ثورة يوليو" وما يدعم شرعيتها من أسماء وأحداث تاريخية. فأصبح النصب التذكاري «للخديو اسماعيل» هو نصب «الجندي المجهول» و«فكتوريا كوليدج» أصبحت «كلية النصر»، وميدان «محمد علي» أصبح ميدان «التحرير»، وشارع «توفيق» صار شارع «عرابي»، وهكذا. وصاغ نظام ناصر نسخة معدلة من التاريخ كانت المدينة نفسها بشوارعها وعمارتها وسيطا في ترسيخها لدى العامة ضمن مشروع محكم استهدف ذاكرة المصريين بذاكرة جديدة (أو "ذاكرة مضادة" counter-memory إذا استخدمنا مصطلحا للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو).

تمثال الخديو اسماعيل في منتصف الستينيات مطموسا ومغلفا بالورق والقماش. لاحقا سينزع من فوق قاعدته وسيلقى في أحد المخازن، ثم ستطرح فكرة تحويله إلى عملات معدنية!
الصورة من مجلة «
أحوال مصرية»

كما تسببت سياسات عبد الناصر الاشتراكية ذات المفهوم الضيق لفكرة الوطنية بشكل مباشر وغير مباشر في رحيل جماعي للجاليات ذات الأصول غير المصرية عن الإسكندرية، وفي المقابل توافدت على المدينة أعداد هائلة من سكان أقاليم مصر الأخرى، ومن ثم، ومع هذه التغيرات الديموغرافية المفاجئة، لم تتوفر الظروف المناسبة لنشأة تلك الأواصر التي تربط بين قطاعات كبيرة من سكان المدينة وبين شوارعها وعمارتها والتي لا تتحقق إلا عبر فترات زمنية طويلة من التفاعل المتبادل. 


أما الحقبة الثالثة التي امتدت منذ بداية السبعينيات وحتى بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فهي حقبة "الانفتاح" وشرعية "أكتوبر"، والتي اهتمت فيها السلطة لفترة وجيزة في السنوات الأولى لحكم السادات بفكرة الذاكرة والعمران أقامت أثنائها نصبا تذكاريا لحرب أكتوبر بميدان «الجمهورية» (محطة مصر سابقا)، وأزالت أو تعمدت اهمال بعض رموز الناصرية (مثل مبنى الاتحاد الاشتراكي الشهير، أيضا بميدان المنشية) في سبيل تحقيق "ذاكرة مضادة" جديدة، قبل أن تفقد اهتمامها تماما بالفكرة، تاركة المدينة تتشكل بواسطة رؤوس الأموال الجديدة الوافدة على المدينة دون تدخل يذكر من الدولة التي زهدت أيضا في أفكار الحفاظ العمراني والتراث. ليبدأ وجه المدينة في التحول السريع الذي لم يتوقف لحظة حتى الآن. 


لقد تركت هذه السياسات المتناقضة أثرها البالغ على علاقة سكان الإسكندرية بمدينهم وشوارعها وعمارتها الفريدة. وزادت حدة المشكلات الاقتصادية وتعقيدات البحث عن الرزق من انصرافهم عن الاهتمام بشأن المدينة وتراثها. والسؤال الآن إذن كيف يمكن من الأصل أن يتم الحفاظ على أبنية تاريخية في مجتمع أغلبه قد لا يعتبرها تراثا يستحق الحفاظ بعد كل هذه التحولات السياسية والاجتماعية؟ 


لقد حققت بعض الجهود الداعية للحفاظ على تراث المدينة بعض المكاسب في العقد الأخير من القرن العشرين عندما حاول عدد قليل للغاية من المتخصصين أن يقفوا في وجه التحول العمراني، وعلى رأسهم جاء د. محمد عوض ليضع لأول مرة قائمة للتراث العمراني بالإسكندرية أتمها عام 1999، ونجح بعدها في اقناع محافظ المدينة بتطبيقها كقائمة للمباني المحظور هدمها في المدينة مستفيدا من قانون الحاكم العسكري في ذلك الوقت الذي حظر هدم "الفيلات التاريخية". ثم أقرت الحكومة قانونا "للحفاظ على التراث المعماري" عام 2006 به ما يكفي من عقوبات (وثغرات) وتحددت بعده قائمة جديدة لتراث يحظر هدمها. فهل نجح كل ذلك في الحفاظ على "تراث" المدينة؟ لا شك أن هذه الإجراءات قد أبطأت بعض الشيء من وتيرة الهدم والتحول، لكنها لم توقفه بأي حال من الأحوال. لقد أثبتت التجربة أن القوانين مهما بلغت صرامتها لن تقنع أحدا بأن ما يمتلكه من مبان تاريخية هو تراث قيّم عليه أن يحافظ عليه ليبقى لأولاده وأحفاده. لقد هدمت مبان رائعة وهامة كانت مدرجة في القائمة الأولى وفي الثانية ولم يترك المُلاك والمستثمرون وسيلة أو حيلة أو ثغرة قانونية أو حجة دستورية أو ظرفا سياسيا استثنائيا إلا واستغلوه في هدم المزيد والمزيد من هذه المباني.


الأمر إذن مرهون بأن يشعر سكان المدينة نفسهم مرة أخرى بقيمة هذا التراث الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وبالتالي بتبعات خسارته. ومطلوب منا جميعا كمهتمين أو متخصصين أن نعمل على سد الفجوة بين سكان المدينة وتراثهم المفترض بكل السبل الممكنة. وعلينا أن نذكر أجهزة الدولة  بفداحة ماتسببت فيه سياسات الحقب الماضية وبأنها الآن معنية - رغم ترهلها ومشكلاتها العاجلة والمزمنة - ببناء ودعم هذا الوعي إذا أرادت أن تحافظ على ما تبقى من المدن المصرية.

الأحد، 7 يوليو 2013

هدم قلعة قايتباي: ملاحظات حول خطاب قديم

© Stéphane Compoint قلعة قايتباي على رأس الميناء الشرقي 

سؤال، هل تستطيع أن تتخيل الإسكندرية بدون «قلعة قايتباي»؟ كيف كان «الميناء الشرقي» سيبدو بدون هذا الحصن المملوكي الفريد؟ أي بناء كان سيحل محل القلعة عند أطراف جزيرة «فاروس»، في هذا الموقع التاريخي الهام الذي ظل فنار الإسكندرية قائما فيه لقرون عديدة قبل أن ينهار وتقام «قلعة قايباي» على أطلاله؟ ليس هذا السيناريو خيالا أو افتراضا، بل هو ما بدأ تنفيذه بالفعل في أحد أيام شهر فبراير من عام 1904، حين شرع بعض العمال في هدم القلعة  التاريخية (بإخلاصهم المعهود بالتأكيد) بعد تلقيهم الأوامر من قائد قوات خفر السواحل المسئولة عن القلعة. 
ebay.com قلعة قايتباي كما تظهر في رسم يعود لعام 1835 - عن كارت بوستال من موقع 
القلعة (أو الطابية) هي نموذج رائع للعمارة العسكرية المملوكية. بناها السلطان المملوكي «الأشرف أبو النصر قايتباي» في القرن الخامس عشر (نحو عام 1479م) بثغر الإسكندرية كإجراء ضمن خطته لمواجهة تهديدات الدولة العثمانية لمصر. أهم مكوناتها هو البرج الرئيسي المميز الذي يتكون من ثلاثة طوابق، والذي يحتوي بداخله مسجدا صغيرا وتعلوه مئذنة مملوكية رشيقة، بالإضافة إلى الأسوار والتحصينات الخارجية.
 البرج الرئيسي لقلعة قايتباي قبل 1904 "Pharos Antike, Islam und Occident: Ein beitrag zur architekturgeschichte" 
القلعة كانت قد تضررت بشدة جراء قصف الأسطول الإنجليزي لمدينة الإسكندرية في يونيو 1882. كانت القلعة أهم تحصينات الجيش المصري بقيادة «عرابي باشا» في المدينة، ولذلك كان لها نصيب الأسد من المقذوفات التي استهدفت مدافع عرابي، وأطاحت في طريقها بمعظم أجزاء المئذنة، كما ألحقت بالبرج وبالأسوار الخارجية أضرارا عديدة. ثم سقطت الإسكندرية في يد الإنجليز. بعدها بسنوات أجريت بعض الإصلاحات المحدودة للمبنى وظل على حاله حتى صدر قرار الهدم المذكور، وأوشك المبنى على الاختفاء تماما.
برج القلعة بعد محاولة هدمها
قرار هدم القلعة جاء من شخص تخصصه الدفاع والحرب وغير مؤهل لتحديد قيمة المباني التاريخية وكيفية التعامل معها، فمن أنقذها إذن؟ هذا هو السؤال المهم هنا. 
منذ ما يزيد عن مائة عام، كانت «لجنة حفظ الآثار العربية» Comité de Conservation des Monuments de l’Art Arabe هي اللجنة المسئولة عن تراث مصر المعماري منذ الفتح الإسلامي. وكان على رأس هذه اللجنة رجلٌ وقور وشديد النشاط يحمل اسما أوروبيا ولقبا مصريا رفيعا.. «ماكس هرتز باشا» (1856-1919) Max Herz Pasha . في 13 مارس 1907، أرسل هذا الباشا خطابا إلى أحد أصدقائه يحكي له فيه عن ملابسات إحباط محاولة هدم «قلعة قايتباي»، إحدى أهم معالم الأسكندرية، وكان هذا نص الخطاب (*): 
"عزيزي السيد «فان بِرشِم»، (...) بدايةً، دعني أجيب على بطاقتك البريدية؛ أرى أنك متحمس لتعرف شيئا عن التاريخ الحديث لـ «قلعة قايتباي». نعم، إن هذا الأثر المثير للاهتمام، والذي يقف في موقع تاريخي عتيق، قد فقد شكله الجميل الذي أمتع كل زائريه فيما مضى. وسقط ضحية الإهمال مثل أشياء كثيرة في هذا العالم. هذه المرة كانت رابطة ضباط الجمارك - يطلق عليهم هنا اسم "خفر السواحل"- هم المسئولون عن هذا التخريب. في 1904، تلقيت استفسارا من «بروفسير شفاينفورث» في الإسكندرية عما إذا كنت علمت بأن هدم قلعة قايتباي قد بدأ. أذهلني الخبر. وفكرت أن أي قلعة -بغض النظر عمن يملك زمام أمورها- هي أمر يخص وزارة الحربية. لذلك قمت بزيارة وزارة الحربية لاستيضاح الأمر. فأخبروني أن وحدة ضباط الجمارك كانوا قد تقدموا بطلب لإجراء بعض الأعمال بالقلعة. فطلبتُ أن تصدر الأوامر بشكل عاجل للعمال، بالتليغراف، بتعليق أعمالهم حتى تُقدم «لجنة حفظ الآثار العربية»  طلبا بتقرير مكتوب عن الأمر. وتم ذلك بالفعل. ثم سافرت إلى الإسكندرية ورأيت الدمار. لقد هُدم الرواق (الدائري) المهم المحيط بالنواة الداخلية للمبنى بشكل كامل. وحجتهم أن حالته كانت سيئة للغاية. ثم أدركت من المراسلات بين "القائمقام" بالإسكندرية ووزارة الحربية أن قرارا قد اتخذ بهدم القلعة بالكامل فيما عدا المسجد الصغير. وتم اقتراح أعمال كثيرة ظريفة بديلة، أعمال كان لها أن تكون موضع فخر للقائمقام لولا الخطر الذي أصبح الأثر فيه. تمكنت أن أقنع الضابط أنه لا خطر ولا حاجة للمزيد من الهدم. واتفقنا أيضا على عدم وضع أي ملاط أو تغطية، وعلى أن تسلّم أي أعمال إضافية إلى «لجنة حفظ الآثار العربية». وافق الضابط، ووزارة الحربية كذلك، وبذلك أصبح بإمكاني أن أجري أعمال الحماية للمسجد ولتلك الأماكن التي كان التدخل فيها ضروريا. واكتملت الأعمال منذ أيام."
وفيما بعد وعلى مدى سنوات قامت لجنة حفظ الآثار العربية بترميم قلعة السلطان قايتباي بشكل كامل ودقيق. اعتمدت اللجنة على رسومات قديمة للقلعة (من أبرزها رسومات كتاب وصف مصر) حتى تعود إلى هيئتها الأولى، وهو ما تم بالفعل، باستثناء المئذنة التي هدمت في قصف الأسطول الإنجليزي، لتصل إلى الحالة والشكل الذي نعرفها عليه اليوم
من محاضر اجتماعات لجنة حفظ الآثار العربية: إحدى لوحات توثيق وترميم قلعة قايتباي
تأمل معي هذه المفارقة المتعلقة بصاحب هذه الخطاب القديم: لما يقرب من ربع قرن، بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين كان المسئول الأول عن حصر وترميم وتجديد وصيانة ما نسميه اليوم بالآثار الإسلامية في مصر معماري يهودي الديانة مَجَري الأصل. وخلال هذه الفترة، أثبت هذا الرجل جدارة ومهارة غير مسبوقة، فرمم وأنقذ بالفعل عددا عظيما من هذه المساجد والمدارس والوكالات والبيوت والتحصينات في ربوع هذا البلد، ربما لو كان سواه في هذا المنصب لما بقيت إلى اليوم في أماكنها. مسجد الأقمر، باب زويلة، مسجد السلطان برقوق، السلطان حسن، الأزهر، وغيرهم الكثير  من آيات العمارة الإسلامية بالقاهرة أنقذها «هرتز باشا» من الإندثار. جاء هذا الرجل إلى مصر في 1880 والتحق بالمكتب الفني لوزارة الأوقاف في 1881، ثم أصبح مديرا لمتحف الفن الإسلامي في 1892، ثم المعماري الرئيسي بلجنة حفظ الآثار العربية  التي كانت تتولى مسئولية الحفاظ على تراث مصر الإسلامي، والتي ترأسها بنفسه منذ 1901 وحتى تم اجباره على الرحيل من مصر في 1914، ضمن اجراءات اتخذها المستعمر البريطاني مع اشتعال الحرب العالمية الأولى. وتقديرا لجهوده وتميزه، نال البكوية في 1895 ثم الباشوية في 1912.
«ماكس هرتز باشا» (1856-1919)

كما ترى، لم يتم تكليف «هرتز باشا» بإنقاذ القلعة، بل كان هو من بادر وتحرك ليوقف الهدم، ثم بدأ في الترميم بشكل علمي. فعل ذلك لأنه كان معماريا مستنيرا يدرك قيمة التاريخ وقيمة العمارة، في عصر لم يكن يعرف مصطلحات "المحسوبية" أو"الأقدمية" أو سياسات تقسيم الكعكة السياسيةببساطة، كان الرجل المناسب في المكان المناسب. هل تعرف عدد الطوابي الحربية والمواقع الأثرية التاريخية التي هدمت فيما بعد في الإسكندرية على يد القوات المسلحة وبالأخص في العقود الأربعة الأخيرة؟ 
من ناحية أخرى، نعم، أتى على مصر حين من الدهر كانت فيه دولة عصرية تتسع للأديان والثقافات والأعراق واللغات المختلفة. أتى عليها عصر اتسع فيه أفق المواطنة بشكل غير مسبوق. وقتئذ، كان المواطن المصري هو ذلك الذي يقوم بدوره في خدمة هذا الوطن وأهله ويعمل على تقدمه وازدهاره. ما أصله؟ ما دينه؟ لا يهم! لقد فقدت مصر الكثير عندما فقدت التنوع والتعددية في مواطنيها، والإسكندرية نفسها أوضح مثال على ذلك. ضاق مفهوم المواطنة والهوية بشكل كبير وأصبح الاختلاف مستهجنا.
اليوم، في وقت تفوح فيه رائحة الفتن الطائفية والمذهبية البغيضة بين الحين والآخر في ركن من أركان مصر، من الأحرى بنا أن نتذكر عصر «ماكس هرتز باشا»، ذلك العصر الذي عهدت فيه الدولة المصرية المستنيرة مسئولية الحفاظ على الآثار الإسلامية في ربوع هذا البلد العريق إلى معماري يهودي مَجَري، لأنه كان أفضل من يقوم بهذه المهمة. ولم يكن أمرا مستغربا. فلنتأمل هذه الحقيقة، لعلنا ندرك حجم التردي الذي وصلنا إليه.

(*) نص الخطاب من كتاب Max Herz Pasha (1856-1919): His Life and Career أو «ماكس هيرتز باشا (1856-1919): حياته وأعماله» ، ترجمة نص الخطاب: د. محمد عادل دسوقي.

الاثنين، 22 أبريل 2013

وقائع اختفاء «سينما ريالتو»

وكأنه نفس المشهد السينمائي الحزين..
في فيلمه الرائع «سينما باراديزو الجديدة» (1988) "Nuovo Cinema Paradiso" يصور لنا المخرج الإيطالي «جيوزبي تورنَتوري» كيف ارتبطت طفولة بطله بسينما القرية التي ولد بها، سينما باراديزو (بالإيطالية: الجنّة)، وكيف تشكل وجدانه بين جدرانها العالية. في الفيلم، يعود البطل بعد ثلاثين عاما لقريته ليشهد وقائع هدم سينما باراديزو بنفسه، بعد أن تقرر استبدالها بموقف للسيارات. في مشهد بالغ الصدق، يلتف أهل القرية حول دار السينما العتيقة، يعلو صوت التفجير مدويا، ثم تتهاوى الجدران وسط سحابة كثيفة من الغبار. ومع الجدران التي لوحتها الشمس لعقود طويلة تتهاوى كذلك الذكريات والأحلام.



وكأنه نفس المشهد. اليوم في الإسكندرية، المدينة التي شهدت أول عرض سينمائي في مصر (1896)، وأول دار سينما (1897)، وأول تصوير للقطات سينمائية (1897)، وأول ستوديو سينمائي مصري (1907)، وأول مجلة سينمائية (1919)، تهدم واحدة من  دور السينما التاريخية. خطوة جديدة في سباقنا المحموم نحو محو تاريخنا وذاكرتنا.
من جديد، تفقد الإسكندرية دار سينما أخرى. واليوم كان الدور على «سينما ريالتو».
«سينما ريالتو» : من أعمال الفنانة كاميل فوكس (camillefoxart.com)
«ريالتو».. 36 شارع صفية زغلول، محطة الرمل. عنوان طالما قصده سكان الإسكندرية لعقود طويلة لمشاهدة الأفلام الجديدة.. 666 مقعد بالصالة، 439 بلكون، و20 لوج، أي 1205 نافذة كانت تفتح يوميا للخيال والسعادة والذكريات، ثلاثة أو أربعة مرات كل يوم، طوال العام.
موقع «سينما ريالتو» (1938)
نعم، بالفعل أطاح البلدوزر اليوم بما تبقى من مبنى السينما، لكن، في حقيقة الأمر، ان اختفاء «ريالتو» بدأ قبل اليوم بكثير. فمثلها مثل آلاف الأبنية التاريخية في الإسكندرية، تُركت عمدا فريسة للإهمال والإضافات والتشويهات وفشل الإدارة والقوانين، قبل أن تظهر فجأة إحدى شركات "الاستثمار العقاري" لتشتريها وتهدمها وتستبدلها بما تيسر لها من مبانٍ دميمة تقضي على ما بقي من ملامح المدينة، وتزيد من اختناق شوارعها. في حالتنا هذه، أعلنت شركة الاستثمار العقاري انها ستقوم "بتطوير" السينما. وضعوا لافتة كبيرة تقول "ريالتو تولد من جديد!" (Rialto Re-born)، وبالطبع لكي تولد من جديد، كان لابد من قتلها أولا!
 طالع الآن موقع الشركة الذي سيخبرك، بلغة انجليزية ركيكة، عن «ريالتو مول» والذي سيضم "اختيارات متنوعة من الأزياء المتميزة، والمستلزمات المنزلية، والمحلات الحديثة، بما في ذلك سينما متعددة الشاشات، ومجموعة مطاعم (food court) عالمية مثيرة للإعجاب، ومساحات تجارية للبنوك، تقع بميدان محطة الرمل". هل سيتحمل شارع صفية زغلول كل هذا؟!
بدأ الهدم الفعلي منذ نحو شهر. واتبعت الشركة المذكورة أسلوبا شديد المراوغة، فقد أعلنوا أنهم سيطورون المبنى، وبالفعل أزالوا أجزاءه من الداخل فقط وتركوا واجهاته، فظننا أنهم سيكتفون بتقسيم المبنى من الداخل فقط، وهو أسلوب متعارف عليه في التعامل مع بعض حالات المباني التاريخية. وقد جرى بالفعل تقسيم دور سينما شهيرة من قبل بالإسكندرية إلى قاعات أصغر، مثلما حدث في سينمات «مترو» و«أمير» و«رويال»، وإن تفاوتت جودة التعامل المعماري في كل حالة.
صالة سينما ريالتو الداخلية بعد بدء الهدم - عدسة رنا المحلاوي
في هذا الفيلم القصير، سجل محمد نبيل وغادة عصام وسارة سويدان كيف "تولد ريالتو من جديد!". في اللقطات المتلاحقة، نستطيع أن نرى الصالة الرئيسية بزخارفها المميزة والسلم الذي كان يؤدي إلى "البلكون" بينما يواصل عمال الهدم مهمتهم بإخلاص.

لكن الشركة المذكورة باغتت الجميع اليوم وأطاحت بالمبنى بالكامل، بلا أي مقدمات. والمبنى للأسف لم يدرج بقائمة التراث الحالية. كان مدرجا فقط بقائمة التراث التي أعدت في 1999 ولم تعد سارية اليوم. 
هدم «سينما ريالتو» بالكامل - عدسة شهاب الدين مصطفى
هدمت «ريالتو»، وهي ليست السينما الأولى، ولن تكون الأخيرة. اقرأ معي ما كتبه الأديب إبراهيم عبد المجيد عن سينمات الإسكندرية في إحدى مقالاته في 2006:
في نهاية الصيف الماضي وأنا أمشي في شارع فؤاد لاحظت إغلاق سينما فؤاد وسينما بلازا. ثم في زيارة تالية لاحظت حركة في سينما فؤاد لإعدادها لتكون "مسرح أفراح" وعرفت أن ذلك سيحدث أيضا مع سينما بلازا. وانقبض قلبي  كما حدث من قبل مع كل سينما يتم إغلاقها في الإسكندرية. من زمان وأنا أعرف أن هدم السينمات في كل البلاد العربية عملية مخططة، ليست عشوائية أبدا، وراءها بعض رجال الأعمال الجشعين الذين أرادوا الاستفادة من المكان لبناء عمارات أو أنشطة تجارية أكثر ربحا، والأهم أن وراءها أفكارا رجعية ترى فن السينما حراما لا نعرف نحن مصدر تحريمه. هؤلاء الذين فعلوا ذلك لم يعرفوا بالطبع أن شخصا مثلي سوف يتألم لسبب شخصي جدا هو أنه في هذه السينمات تلقى أول دروسه في التخيل وقيمته. وأنهم حرموا طوائف الشعب من أجمل متعة احتفالية، فرؤية الأفلام في السينما أمتع وأعظم من رؤيتها في التليفزيون، لأنه في السينما أنت تشاهد الفيلم ضمن طقس احتفالي كبير يشاركك فيه مئات الناس, وضمن صمت جليل يليق بالفن، وضمن توحيد عميق مع الجماعة من النظارة (...) كم دارا للسينما تم هدمها في الإسكندرية؟ أكثر من ثلاثين دار. ابتداءا من سينما النصر الصيفي في الدخيلة زمان إلى سينما المنتزة الصيفي مرورا بسينما الهلال بالقباري، وسينما الجمهورية براغب وسينما ستار بمحطة مصر وسينما التتويج وريتس والهمبرا والكوزمو والشرق وبارك وماجيستيك بالمنشية ومحطة الرمل، وسينما قيس وسينما ليلى بباكوس وسينما سبورتنج ولاجيتيه وأوديون وغيرهما من سينمات الدرجة الثانية والثالثة. هدمت هذه السينمات وتحولت إلى عمارات أو مولات أو تحولت إلى ورش ومخازن.."
في النهاية، لن نكف أبدا عن التذكير بأهمية تراث الإسكندرية العمراني، سواء لأسباب تاريخية وثقافية بالغة الأهمية لارتباطه بهوية سكان المدينة وذاكرتهم الجمعية وعلاقتهم التبادلية معها، أو لأسباب اقتصادية وسياحية حيث تعتمد مدن العالم على ما تملك من ملامح تاريخية باعتبارها مقومات تسويقية جاذبة للسياحة تدر عليها ملايين الدولارات سنويا، أو لأسباب نفعية ووظيفية بحتة حيث لم تعد الإسكندرية تتحمل أي مزيد من الإضافات والكثافات مع مرافقها المتهالكة وشبكة طرقها الدقيقة.
رفقا بمدينتنا المتعبة.
ووداعا سينما «ريالتو».

السبت، 12 يناير 2013

عن وأد التاريخ .. والتعايش معه

(1) 

الإسكندرية واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم. وبرغم تاريخها الممتد لن تستطيع اليوم أن ترى أكثر ما بناه أهل الإسكندرية عبر هذا التاريخ. في النصف الأول من القرن التاسع عشر ومع ازدهار المدينة بسبب سياسات محمد علي باشا، بدأ أيضا الاهتمام بآثارها. وسرعان ما أصبح لها متحفٌ عظيم يضم ما يتم الكشف عنه من آثار بطلمية ورومانية.
لكنك ستندهش لا محالة إذا عرفت أن اكتشاف «المسرح الروماني» بـ«كوم الدكة» في بداية الستينيات هو آخر المواقع الأثرية التي اكتشفت بمركز مدينة الإسكندرية. لقد توقفت الاكتشافات المتوالية تماما منذ هذا التاريخ! 
غريبة، صح؟ لا يمكنك أيضا أن تتجاهل حقيقة أن توقف الاكتشافات منذ خمسين عاما يتزامن بشكل واضح مع بدايات التدهور العمراني والتردي المعماري بالمدينة. في الحقيقة لا يمكن فصل الظاهرتين. انهما وجهان لقضية واحدة. 
في كتابه «إعادة اكتشاف الإسكندرية» (1998) Alexandria Rediscovered تعرض الأثري الفرنسي الشهير «جان ايف اُمبرور» لمشاكل الآثار في الإسكندرية، المدينة التي قضى بها عقودا باحثا عن الآثار تحت أرضها وتحت ماء بحرها. سأترجم هنا ما كتبه «امبرور» في مقدمة الكتاب منذ 15 عاما:
"بالمقارنة مع حفنة المواقع الأثرية التي يمكن رؤيتها اليوم، لقد اختفى عدد آخر هائل من المواقع للأبد، على الرغم من إخلاص وحماس كل الأثريين الذين تعاقبوا على إدارة المتحف اليوناني الروماني. المديرون الإيطاليون والانجليز ثم المصريون أبدوا جميعا شغفا حقيقيا بمدينتهم. لكنها كانت معركة خاسرة، وأجدني مضطرا للاعتراف أن الأمر يزداد سوءا: فحركة إعادة البناء بمركز المدينة، والتي تجعل الإسكندرية واحدة من أكبر التجمعات الحضرية حول البحر المتوسط، تضمنت تضحيات لا يمكن تعويضها، والوتيرة تتسارع. في السنوات الأربعين أو الخمسين السابقة لم يتم الحفاظ ولو على موقع أثري واحد، فموقع كوم الدكة (المسرح الروماني) كان الأخير. لقد تم انقاذه في بداية الستينيات ثم أجريت به حفريات بأسلوب خبير ومنهجي بواسطة فريق بولندي. وهو الرئة الخضراء لوسط المدينة. وبعيدا عن كونه بقعة خضراء، فقد أصبح مزارا سياحيا يجذب آلاف الزوار كل عام. لا يمكن للمرء إلا أن يأسف أن هذا المثال لم يحتذى بعد ذلك."
المسرح الروماني بكوم الدكة - ويكيبيديا
حسنا، هل يعلم أحد اذن الحجم الحقيقي لما تم اخفاؤه أوردمه أوتحطيمه من اكتشافات أثرية أثناء عمليات الحفر لإنشاء مباني جديدة في الإسكندرية في العقود الخمسة الأخيرة؟
هل يستطيع أحد أن ينفي ما تتناقله الأجيال المختلفة من سكان الإسكندرية عن هذه الجرائم؟ كم تمثال تم تحطيمه عند اكتشافه في مناطق مختلفة من المدينة كي لا تصادر «الآثار» الأراضي؟ ما عدد الصهاريج والأنفاق والأقبية الأثرية التي تمت تغطيها وملؤها بالخرسانة لتختفي للأبد تفاديا للمصادرة؟

هل سمعت مثلي مثلا بما حدث في «عمارات الضباط» في الثمانينيات؟ المعلومات الشفاهية تجزم بوجود اكتشافات مذهلة ظهرت بالفعل أثناء انشاء العمارات بمنطقة «مصطفى كامل» وتم ردمها بالكامل تحت أساسات العمارات بأوامر مباشرة من المشير «عبد الحليم أبو غزالة» وزير الدفاع في ذلك الوقت. موقع العمارات في الأصل كان موقعا متسعا تشغله ثكنات كانت تابعة للجيش الإنجليزي والتي أصبحت فيما بعد تابعة للجيش المصري، قبل أن يتحول فجأة - بقدرة قادر- من موقع عسكري إلى مشروع سكني تعاوني لضباط القوات المسلحة هو الأضخم من نوعه في الإسكندرية. 
ثكنات «مصطفى كامل» في النصف الأول من القرن العشرين (aaha.ch) و«عمارات الضباط» اليوم بنفس الموقع (panoramio.com)
على حدود «العمارات» تقع واحدة من أهم المقابر البطلمية في الإسكندرية، وهي مقابر «مصطفى كامل» التي تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، والتي تم اكتشافها بالطبع قبل الستينيات، تحديدا في عام 1933، عندما بدأت تسوية هذا الجزء من الموقع تمهيدا لإقامة ملعب لكرة القدم. السوال الآن هو: كم موقع أثري آخرتم تدميره ودفنه تحت أساسات هذه الأبراج السكنية؟
مقابر «مصطفى كامل» (Alexandria Rediscovered) وموقعها على أطراف عمارات الضباط (Google Earth). 
(2) 
ولكن كيف تعامل سكان ومعماريو الإسكندرية مع آثار مدينتهم قبل "عصر وأد التاريخ"؟ دعنا نتأمل بعضا من أمثلة هذا التعامل العملي مع الآثار.
في العشرينيات من القرن العشرين قام المعماري «فلاديمير نيكوزوف بك» Wladimir Nicohosoff Bey بتصميم استاد البلدية على قطعة أرض تبرعت بها بلدية الإسكندرية شرق حي «كوم الدكة»، وذلك برعاية «أنجِلو بولاناكي» Angelo Bolanaki، اليوناني السكندري الذي كان يطمح في إقامة دورة الألعاب الأولمبية لعام 1916 في الإسكندرية، وهو ما لم يحدث للأسف، لكنه تمكن فيما بعد من جمع ما يكفي لبناء مبنى استاد يتسع لـ 22 ألف متفرج، هو الأول من نوعه في مصر، وقامت شركة المقاولات الإيطالية Dentamaro & Cartareggia بتشييده، وتم افتتاحه في 1929 في احتفالات مبهرة حضرها أفراد من العائلة الملكية المصرية، ليصبح بذلك واحدا من أهم وأجمل استادات العالم في ذلك الوقت.
استاد البلدية (عن صفحة أهل مصر زمان على فيسبوك)
الموقع الذي وفرته البلدية كان يحتوي على أجزاء من أسوار الإسكندرية القديمة. فكيف تعامل «نيكوزوف بك» مع السور الأثري؟ لقد حافظ على ماتبقى من السور ودمجه في الغلاف الخارجي لمبنى الاستاد في مزيج مبتكر. لقد حافظ على الأثر القديم ولم يتخلى عن احتياجات المبنى الجديد. 

كذلك فعل المهندس البلجيكي «مونفرون بك» Monfront Bey مدير الحدائق والتشجير ببلدية الإسكندرية الذي صمم «حدائق البلدية» (الآن حدائق الشلالات) عندما أبقى على الأسوار العتيقة داخل الحديقة كجزء من التصميم، الأمر الذي أضفى على الحدائق مظهرا تصويريا picturesque فريدا.
حدائق البلدية (من كتاب Vintage Alexandria)
جزء من أسوار الإسكندرية التاريخية بحدائق الشلالات كما تبدو اليوم (عدسة محمد عادل دسوقي)
لم يقتصر هذا المسلك فقط على المباني العامة والحدائق، بل لدينا أمثلة رائعة أيضا في المباني السكنية. من يصدق أن يعثر ملّاك احدى الأراضي على صهريج أثري بأرضهم في بداية القرن العشرين، فيبنون عمارة سكنية كاملة فوق الصهريج، ويتمكن مصمم العمارة من استيعاب المنشأ الأثري في تصميمه، ويضع مدخلا يؤدي له، فيصبح بعد سنوات عديدة مخبأً أوى إليه سكان هذه العمارة وجيرانهم للاحتماء من الغارات الجوية أثناء الحرب العالمية الثانية بعد أن قامت البلدية بتجهيز الصهريج ليقوم بوظيفته الجديدة كمخبأ. هل تصدق هذا؟ من أهم هذه الأمثلة عمارتي «تورييل» المشيدتان فوق «صهريج صفوان» بشارع فؤاد.
«عمارتا تورييل Toriel Buildings» بشارع فؤاد (عدسة د. ميشيل حنا من موقع Panoramio) ومسقط أفقي لصهريج صفوان الذي لا يزال موجودا أسفلهما (عن موقع مركز الدراسات السكندرية)
صهريج ابن بطوطة: أحد الصهاريج التي استخدمت كمخابئ أثناء الحرب العالمية الثانية (عن كتاب Alexandria Rediscovered)
حدث ذلك في الإسكندرية في العشرينيات والثلاثينيات، أي قبل أن يتأسس مفهوم "التراث الثقافي" cultural heritage ومفهوم "الحفاظ" conservation بعدة عقود. اليوم، وقد ترسخت هذه المفاهيم وأوجدت شعوب العالم آليات مختلفة للحفاظ على مدنها التاريخية واستثمار تراثها بشتى الطرق، نقوم نحن بهدم آثارنا ودفن تاريخنا تحت أساسات أبنيتنا القبيحة التي تتكاثر يوما بعد يوم.